لغز معادلة اللحوم 140مليون رأس من الماشية على 40 مليون نسمة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] أحمـد هاشـم
دهش العالم حينما أُزيح الستارعن حالة
البؤس التى يعيش فيها 7 مليون ليبى فى بلد ينتج مليون ونصف برميل نفط
يومياً، مثلما إندهشت السلطات السعودية لغلاء أسعار اللحوم بالسودان مما
دفع بالفئات الوسطى فى العاصمة للإضراب عن الشراء فى بلد تباهى حكومته
العالم بأنها المصدر الرئيسى لأضحية حجاج بيت الله الحرام. ولهذا السبب
أوقفت السلطات السعودية إستيراد الهدى من السودان هذا العام. هذا المقال
يحاول حل هذه المعادلة الحسابية البسيطة فى ظروف السودان المعقدة التى تشبه
إلى حد كبير معادلة غير موزونة الأطراف، ثمثلها الحكومة الإلكترونية من
جهة ومربيى الماشية الذين ما زالوا أسرى وسائل إنتاج القرن السادس عشر من
الجهة الأخرى. إذا صدقت تقديرات تعداد البشر والماشية فى السودان، يعادل
نصيب الفرد ثلاثة ونصف راس من الماشية، كافية لتوفير اللحوم والألبان
ومنتجاتها من الزبادى والسمن والأجبان (البيضاء، الصفراء، المضفرة، الرومى،
الحلومى والبقرة الضاحكة!). السؤال الجوهرى الذى يبحث عن إجابة هو: لماذا
لا يكفى إنتاج 140 مليون رأس من الماشية 40 مليون نسمة؟
ينتج السودان 700 ألف طن مترى من
اللحوم فى العام (340 ألف من الأبقار، 200 ألف من الماعز و 160 ألف من
الضأن) بينما يستهلك الفرد 20 كيلو من اللحوم فى العام (10 بقرى، 8 ضأن و2
دجاج) أقل من تقديرات منظمة الصحة العالمية للفرد فى الدول النامية البالغ
30 كيلو فى العام. كما يعتبر هذا أقل من إستهلاك الفرد فى الدول
المستوردة للحوم السودانية، إذ يستهلك الفرد المصرى 22 كيلو والسعودى 54
كيلو فى العام. يبلغ أعلى معدل إستهلاك اللحوم فى أفريقيا فى دولة الجابون
(54 كيلو) بينما تتربع الولايات المتحدة الأمريكية على قمة أعلى معدلات
الإستهلاك فى العالم (125 كيلو). تضاعف إستهلاك الفرد للحوم فى خلال
الخمسين عاماً الماضية فى غالبية دول العالم بإستثناء السودان حيث إرتفع
الإستهلاك كيلو واحد عن ما كان عليه فى عام 1961 .
أما بالنسبة للألبان ينتج السودان 7
مليون طن فى العام، 72% من الأبقار و 20% من الماعز و7% من الضأن و1% من
الإبل. بينما يبلغ إستهلاك الفرد 19 لتر (رطل) من اللبن فى العام، أقل
بكثير من تقديرات منظمة الصحة العالمية للدول النامية البالغ 50 لتر. هذا
إذا وضعنا فى الإعتبار بأن أعلى مستوى الإستهلاك العالمى فى دولة يوروغواى
يبلغ 230 لتر من اللبن للفرد فى العام. هنا لا بد من الوقوف عند السؤال
الجوهرى الثانى، أين يكمن خلل هذه المعادلة؟ فى الماشية، أوأصحاب الماشية،
أوفى سياسات الحكومات السودانية؟
ذكرنا فى مقال سابق أن راس الماشية،
البقرة على سبيل المثال، هى وحدة إنتاجية متخصصة لإنتاج اللحوم أو اللبن إذ
تقوم بإستهلاك مدخلات إنتاجية (أعلاف) ذات قيمة إقتصادية قليلة لتحويلها
إلى منتجات ذات فوائد عالية إقتصادياً وغذائياً. البقرة التى تنتج أقل من
12 لتر فى اليوم تُعتبر بأنها غير مجزية إقتصادياً فى أوروبا وتنتهى حياتها
فى المسلخ. مثل هذه البقرة تُصنف عالية الإنتاج فى السودان إذا وضعنا فى
الإعتبار بأن بقرة البقارة المتنقلة فى كردفان تنتج 3 لتر لبن فى اليوم.
إذ تبذل الماشية فى بوادى دارفور، كردفان، النيل الأزرق وشرق السودان
طاقاتها الإنتاجية فى الترحال بحثاً عن الأعشاب الخضراء فى أشهر الخريف
الثلاثة لتواصل بقية العام سعياً وراء الحشائش الجافة ذات القيم الغذائية
المتدنية وقد تنعم بشرب الماء النظيف مرة واحدة كل يومين. لكى تتأقلم هذه
الماشية على حياة الضنك فى بلاد السودان كان لابد لها من تبديل المورثات
الجينية الناتجة للحوم والألبان بمورثات تساعدها على تحمل الجوع والعطش
والأمراض لكى تتكاثر وتحافظ على نسلها من الإنقراض. فبأى حق نباهى العالم
بما نملك من ماشية، وبأى حق نطلب أن نحصل على لحوم وألبان رخيصة ولم نوفر
لهذه الماشية أدنى المقومات الإساسية للإنتاج فى القرن الحادى والعشرين.
والآن يمكن القول بأن المسئول من خلل معادلة اللحوم السودانية ليس فقط
مربيى الماشية النمطيين الذين قد تصل نسبة الأمية بينهم إلى أكثر من 90% بل
يكمن الخلل أيضاً فى سياسات الحكومات السودانية المركزية والإقليمية
والجامعات ومراكز البحوث البيطرية والزراعية التى ما زال بعض المسئولين
فيها أسرى العقلية البدوية التى تهتم بالكمية وليس النوعية.
يعتبر إستهلاك الفرد فى العام من
البروتين والسُعرات الحرارية أحد مؤشرات الحالة الصحية للدولة ويدخل ضمن
مؤشرات قياس مستوى الحياة بالإضافة إلى التعليم، الثروة، الأمن، البيئة
والديمقراطية. ما زال السودان قابع فى ذيل قائمة العالم فى تقييم مستوى
الحياة لعام 2011، فى المرتبة 133 متفوقاً فقط على أفريقيا الوسطى، تشاد،
أفغانستان والصومال. فى الختام لا بد من الإشارة لبعض الحلول الجذرية
لتطوير وسائل تربية الماشية فى السودان وذلك بزيادة ورفع قدراتها
الإنتاجية، ويمكن أن يتم هذا بوضع سياسات واضحة فى حقوق ملكية الأراضى
الفردية والجماعيةً مما يقود إلى إستقرار الرعى المتنقل. تحسين سلالات
الماشية بإستيراد مورثات جينية ذات إنتاجية عالية للحوم والألبان مع الحفاظ
على الخصائص الأساسية الملائمة للبيئة السودانية. تكثيف الإرشاد الزراعى
بإستخدام البرامج التلفزيونية والإذاعية لتوعية وتعليم مربيى الماشية
النمطيين الوسائل الحديثة لتربية الحيوان بالإضافة لترغيب مربين جدد من
خريجى الجامعات فى مجالات الزراعة، الإنتاج الحيوانى، الموارد الطبيعية
والإقتصاد الزراعى وذلك بالتحفيز الجاد بملكية الأراضى الزراعية والتمويل
وتخصيص نسبة من الميزانية العامة لدعم المنتجين لضمان الحد الأدنى من تغطية
مقومات الإنتاج. لقد مرت دول عديدة بنفس التجربة التى يعيشها السودان الآن
ولكنها نجحت فى إستغلال وسائل النهضة الصناعية والزراعية لتحقيق طفرات فى
الإنتاج الزراعى والحيوانى جعلها فى مأمن من الفجوات الغذائية والمجاعات.
والآن نحن فى أمس الحاجة لثورة زراعية حقة عمادها البحث العلمى والتطبيقى
ونقل المعرفة والتقنية من مراكز البحوث إلى الحقل والبادية مع تطويع تجارب
بعض دول آسيا وأمريكا الجنوبية لتواكب البيئة المحلية. وأخيراً لا بد من
الحرص على إستعمال عبارة أن السودان سلة غذاء السودانيين أولاً، إلى أن يتم
إستبدال الذرة بالقمح أو الأرز كغذاء رئيسى للإنسان وتوفيربقية المواد
الغذائية لتكون فى متناول كل قروى حسب معايير منظمة الصحة العالمية والعمل
على رفع مستوى المعيشة والتحررمن تهديد المجاعة التى تطرق أبوابنا بين عام
وآخر، والتحررأيضاً من الإعتماد على المنظمات الخيرية فى تغذية ربع سكان
البلاد.
إحصائيات هذا المقال مصدرها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة.
د. أحمـد هاشـم، سكرتير مؤسسة كردفان
للتنمية وباحث فى كلية الملكة ميرى للطب جامعة لندن